فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)}
{فَلَمَّا رَءاهُ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل: {لا} كناية بناءًا على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالعبث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله؛ و{رأى} قيل: علمية فجملة {لاَ تَصِلُ} مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولًا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرًا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك {نَكِرَهُمْ} أي نفرهم {وَأَوْجَسَ} أي استشعر وأدرك، وقيل: أضمر {مِنْهُمْ} أي من جهتهم {خِيفَةً} أي خوفًا، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبئ عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه: {قَالَ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25] أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه {قَالُواْ} حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في الحجر {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] فإن الظاهر منه أن هناك قولًا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل: إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقًا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار: 12] وفي الصحيح «قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية.
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية. والخبر المذكوران لا يصلحان دليلًا لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا {لاَ تَخَفْ} ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيرًا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك، وظاهر قوله سبحانه: {أَنَّا أَرْسَلْنَا} أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه: {إِنَّا نُبَشّرُكَ} [الحجر: 53] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي {أَرْسَلْنَا} بالعذاب {إلى قَوْمِ لُوطٍ} خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا} فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده، وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت عنى، وقيل: إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فإنه أراد في الأول على ما قيل: أنكرت مودتي، وقال الراغب: إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما فيه الآية، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل.
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له: {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا} وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتخرحموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءًا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلًا في طرف من الأرض منفردًا عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجه إسحاق بن بشر. وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل: كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت.
وقال العلامة الطيبي: الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} ليكون جامعًا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضًا انتهى.
وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفتهم بأنهم ملائكة لم يحضر إلخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولًا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر.
قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه: {لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ} [الحجر: 35] مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى: {إِنَّا نُبَشّرُكَ} فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا: {لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ} و{إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصارًا لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {نَبّئ عِبَادِي أَنّي أَنَا الغفور الرحيم} إلى قوله جل وعلا: {عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 49-51] فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجيء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصارًا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} استئنافًا في موضع التعليل كما هو الظاهر.
وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة: الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 57، 58] صريح في أنهم قالوه جوابًا عن سؤاله عليه السلام، وقد أوجز الكلام اكتفاءًا بذلك انتهى.
وتعقب بأنه قد يقال: إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال: أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 58، 59] الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة.
والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قبل إما لأنه لم يعلم ذلك منه.
أو لأنه كان مشغولًا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم: {أَنَّا أَرْسَلْنَا} على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلًا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلًا على المتقدم، وتأخر الحجر. والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولًا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت كة وأن بين هود. والحجر سورة واحدة، وبين الحجر. والذاريات ثلاث عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأنه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام القول بأنه خاف بشرًا وبلغ منه الخوف حتى {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] لاسيما إذا قلنا: إنا من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}
{وامرأته} سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه {قَائِمَةً} في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لاسيما العجائز منهم، وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزًا، وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازمًا، والظاهر أنه لم يكن كذلك لتأخر آية الحجاب، ويجوز أن يقال: إن القيام وراء الستر كان اتفاقيًا، وعن ابن إسحق أنها كانت قائمة تصلي، وقال المبرد: كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال، وأخرج ابن المنذر عن المغيرات قال في مصحف ابن مسعود: وامرأته قائمة وهو جالس، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد، وعن ابن عطية بدل {وامرأته قَائِمَةٌ} وهي قائمة ففيه الاضمار من غير تقدم ذكر، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام، والجملة إما في موضع الحال من ضمير {قَالُواْ} وإما مستأنفة للأخبار {فَضَحِكَتْ} من الضحك المعروف والمراد به حقيقته عند الكثير، وكان ذلك عند بعضهم سرورًا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام، والنساء لا يملكن أنفسهم كالرجال إذا غلب عليهن الفرح، وقيل: كان سرورًا بهلاك أهل الفساد، وقيل: جموع الأمرين، وقال ابن الأنباري: إن ضحكها كان سرورًا بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطًا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن خالته وقيل: كان أخا سارة وقد مر آنفًا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة، وقال قتادة: كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال السدى: ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا، وقال وهب بن منبه: وروي أيضًا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحق، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير، وقيل: {ضحكت} من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام، ولعل الأظهر ما ذكرناه أولًا عن البعض، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو {مسفرة ضاحكة}، [عبس: 38، 39] ومنه قولهم: روضة تضحك، وأخرج عبد بن حميد. وأبو الشيخ. وغيرهما عن ابن عباس أن {ضحكت} عنى حاضت، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. ومجاهد. وعكرمة، وقولهم: ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضًا، وأنكر أبو عبيدة. وأبو عبيد. والفراء مجيء ضحك عنى حاض، وأثبت ذلك جمهور اللغويين، وأنشدوا له قوله:
وضحك الأرانب فوق الصفا ** كمثل دم الجوق يؤم اللقا

وقوله:
وعهدي بسلمي ضاحكا في لبابة ** ولم يعد حقا ثديها أن تحلما

وقوله:
إني لآتي العرس عند طهورها ** وأهجرها يومًا إذا تك ضاحكا

والمثبت مقدم على النافي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، نعم قال ابن المنير: إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها: {ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا} [هود: 72] إلخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضًا، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة {فَضَحِكَتْ} بفتح الحاء، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن {ضحك} بالكسر هو المعروف، ومصدره ضحكًا وضحكًا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها، وضحكًا وضحكًا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان، ويفهم من مجمع البيان أن مصدر ضحك عنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء، ولم نر هذا التخصيص في غيره، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي خصوص بضحك عنى حاض، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت.
{فبشرناها بإسحاق} قيل: أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا {وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} بالنصب، وهي قراءة ابن عامر. وحمزة. وحفص. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب، ورجع ذلك أبو علي، واعترضه البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلًا تحت البشارة، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى، وقيل: هو معطوف على محل {بإسحاق} لأنه في محل نصب، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله:
ولسنا بالجبال ولا الحديدا

وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح، وزعم بعضهم أن العطف على {بإسحاق} على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحق فيكون كقوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلا بين غرابها

إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة، ويقال لمثل هذا: عطف التوهم، ولا يخفى ما في هذه التسيمة هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال: وقرئ بالنصب كأنه قيل: وهبنا لها إسحق ومن وراء إسحق يعقوب على طريقة قوله:
مشائيم...

البيت.
عليه لما أنه الظاهر منه، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والاضمار على شريطة التفسير وغيرهما، وإنما شبهه بقوله:
ولا ناعب...

تنبيهًا على أن ذلك مع بعده لما كان واقعًا فهذا أجدر، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل نلته وأعمل، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته، وقيل: إنه معطوف على لفظ {إسحاق} وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية والعجمة، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه: إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر، فإن كان المعطوف منصوبًا أو مرفوعًا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو. وضربت زيدًا واليوم عمرًا، وقرأ الحرميات. والنحويان. وأبو بكر و{يَعْقُوبَ} بالرفع على الابتداء، {وَمِن وَرَاء} الخبر كأنه قيل ومن وراء إسحق يعقوب كائن. أو موجود. أو مولود قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها باسحق متصلًا به يعقوب.
وأجزا أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش، وقيل: إنه جائز على مذهب الجمهور أيضًا لاعتماده على ذي الحال، وتعقب بأنه وهم لأنه الجار والمجرور إذا كان حالًا لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر.
وجوز النحاس أيضًا أن يكون فاعلًا باضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحق يعقوب.
قال ابن عطية: وعلى هذا لا يدخل في البشارة، وقد مر ما يعلم منه الجواب، و{وراء} هنا عنى خلف وبذلك فسرها الراغب. وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح، والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى قَالُواْ سلاما قَالَ سلام فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء} بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها، أو بأن يولد لولدها ولد، قيل: وهذا أقرب، والمنقول عن الزمخشري أظهر، والمعول عليه تفسيره عنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى: {نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} [مريم: 7] وهو الأظهر.
وروي عن السدى: ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر. والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام.